اليوم الأول: حماس و خوف

وصلت اليوم إلي أحد مخيمات اللاجئين بالقرب ثيسالونيكي في اليونان، بكثير من الحماس و شئ من الخوف.

المكان: مصنع قديم مهجور على حدود المدينة. يعيش فيه أكثر من مائة و خمسين عائلة (أغلبهم سوريون و القليل منهم من العراق). ولكن على الرغم من العدد، فالمكان موحش خالي تماماً من الروح. و كيف به ألا يكون موحش. إنه علي أي حال مصنع مهجور لا بيت كبير.
وصلت إلى المخيم مع ثلاثة أشخاص آخرين جاءوا مثلي متطوعين، أغلب الظن أنهم في الخمسينيات أو الستينيات من العمر. نيدا من كرواتيا (يوغسلافيا سابقاً)، و سيندي و رويرت من الولايات المتحدة. روبرت و نيدا متزوجان، و سيندي أخت روبرت. أعجبتني فكرة أنهم جاؤا كعائلة. روبرت طبيب جراح، و نيدا كانت لاجئة في عمر الخمسة عشر، عاشت مع والدتها في مخيم لاجئين بينما كان أبوها سجين سياسي. أشارت إلي ذلك وسط الحديت. أردت أن أسأل أكثر، و لكني لم أحسبه من اللياقة و الأدب في أول لقاء.

جلسنا لجلسة تعريفيه للمتطوعين الجدد. الجزء الأكبر من المقدمة كان عن الصدمة، التعامل معها. الصدمة هي ندبة أو شرخ نفسي، قد لا يزول أبداً. يتكيف الإنسان مع وجوده و لكنه لا يزول، فلا يعود الإنسان بعده لما كان قبله. أغلب المقيمين هنا تعرضوا لصدمات تركتهم بكثير من الأذي النفسي، اعيتهم مرارة الظلم و الحرب. قد لا يعلم المرء أنه مصاب بالصمة. تجده يتعامل و كأن مشاعره مجمدة.

الأطفال أيضاً، الأطفال خصوصاً مصابين بالصدمة. بكاء مفاجئ، بعض العنف، تري ذلك في التحول المفاجئ في حالتهم المزاجية. قد لا تعرف أبداَ ما الذي يحرك الشعور بالصدمة. قد يكون للبعض خبر أو صورة من بلده(ا). إلا أنه ليس بالضرورة شئ سلبي أو حزين. قد يكون شيئ بعشوائية رائحة اللحم المشوي، إذ يذكرهم بكم من جيرانهم و أحبائهم اشتموا رائحة أجسادهم تحترق.

حذرونا أيضا من انتقال الشعور بالصدمة إلينا. القاعدة تقول “لا تضر”.
حسناً، لسنا في حالة من حالات الطوارئ القصوي-إذ لسنا في الحرب، لكننا أشبه بمرحلة انتقالية من حالة الطوارئ عبوراً إلي مرحلة الاستقرار و التحضير لمستقبل أفضل. في مثل هذا الموقف دورنا هو االدعم و الاستجابة الأولي. دورنا أقل أهمية من دور المسعفين في حالات الطوارئ في أوقات حرب أوحريق. و لكن القاعدة ثابتة: “لا تضر”. تستمع و تصبح جزء حي من الموقف لكن لابد أن تنتبه. لا تدع الصدمة تنتقل إليك. و إلا قد تسبب ضرر في وقت لاحق لنفسك أو لغيرك.

قلت لنفسي: “و لكنني مصرية. لست بفتاة مدللة منعزلة لم تر في حياتها أي شئ” أحس المتحدث ذلك و كأنه قد سمع أفكاري. فاستأنف قائلاً: “إذا كنت قد تعرضت في حياتك للكثير أو مررت بصدمات، لا يؤمنك ذلك من الصدمة، بل يجعلك أكثر هشاشة و عرضه للتأثر بمشاكل الأخرين و ربما الارتباط بها”.

بينما هو يتحدث انتبهت لجدل يدور بداخلي، جدل أزعجني حدوثه. جئت إلى هنا، و لم أجد خيام، بل أسر تعيش خلف أبواب مغلقة. أين الخيام؟ أكان شيئاُ ما بداخلي يبحث عن الإثارة؟ هل أجدني و قد استخففت للتو بمعاناة هؤلاء الناس لمجرد أنهم لا يعيشون في خيام؟ متي أصبحت الجدران رفاهية غير متوقعة؟ ألانهم لاجئين؟ هؤلاء الناس لم يتركوا بلادهم هرباً من الفقر. بالتأكيد كان لديهم كل شيئ. لكنها الحرب و ما يتبعها من خراب. تباً لقبح أفكاري و ما تعكسه من قبح العالم. أتشوق ليومي الثاني، لرؤية أناس أحببتهم قبل أن أراهم.

Leave a comment